خلدونيات/فصول من أدب المحاكاة / الشيخ محمد الأمين بن مزيد

بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في أنَّ من شُروط ِ الاِستقلال التَّخَلُّصَ من لُغَةِ الْعَدُوِّ
اعلم أن معرفة اللغة العربية أمر لا بد منه لمن أراد أن يتفقه في دين الله ، ويفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكون على صلة بما كتبه علماء هذه الأمة ، ولذلك كانت اللغة العربية تنتشر حيثما انتشر الإسلام، وكان الناس عندما يسلمون يقبلون على هذه اللغة المباركة يتعلمونها ويعلمونها أبناءهم ويتكلمون بها فيما بينهم ، ثم يؤلفون بها المؤلفات ، وقد اشترك العرب وغير العرب في خدمة هذه اللغة ، لأنها لغة الدين المؤكِّدة لوحدة هذه الأمة ، ولقد كانت هذه اللغة الميمونة –قرونا عديدة- لغة العلم التي لابد أن يتعلمها طلابه ولقد قام بعض الدارسين في بعض مدارس العلم بحلب قبل سنوات بجمع ألفاظ العلم الواردة في معجم لسان العرب فكشفوا من ذلك أمرا عجيبا ، فهل نقبل بعد ذلك قول أرنولد توينبي ” إن اللغة العربية لغة دينية لا تصلح إلا للطقوس والشعائر كالصلاة وتلاوة القرآن والدعاء ؟ ”
ولقد دخلت مفردات هذه اللغة الكريمة إلى مختلف لغات العالم، حتى قيل إن نسبة مفردات اللغة العربية في اللغات الإسلامية ما بين الثلاثين والستين في كل مائة كلمة ، و إن ربع لغة الأسبان عربي، وثلاثة آلاف كلمة من لغة أهل البرتغال عربية، وقرابة ألف كلمة من لغة الفرنجة عربي ،
وكانت اللغةُ العربية هي لغةَ التخاطبِ عند نصف القبائل الموجودة فيما يسمى لهذا العهد بالقارة الإفريقية ، ولقد كانت هي اللغة التي تكتب بها المعاهدات بين الفرنجة ومسلمي غرب القارة الإفريقية ، ولقد نقل المؤرخون أن أصحاب الكنائس في الأندلس اضطروا بعد خمسين سنة –فقط-من فتح الأندلس إلى ترجمة خطبهم الدينية إلى اللغة العربية ليفهمها النصارى !! ولقد تعجب رينان وهو من مقدمي الفرنجة الدارسين من سعة انتشار اللغة العربية فقال ” من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره انتشار اللغة العربية فقد كانت في البدء غير معروفة ،ومنذ علمت بدت لنا على غاية من الكمال ، سلسلة غنية متكاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم ، ولم نعهد قط فتوحا أعظم من فتوح العربية ولا أشد سرعة منها ، وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة . ”
وهذا ما جعل العدو يحنق عليها أشد الحنق ويحاربها أشد المحاربة ،فحارب حروفها وبذل كل الجهد ليفصل بينها وبين لغات الأمم الإسلامية التي كانت تكتب بهذا الحرف الإسلامي ، وكان من أول من امتثل أمرهم في ذلك وتولى كبر هذا المنكر الحضاري أتاتورك بمساعدة يهود الدونمة ، فكتب لغة الترك بالحرف اللاتيني الذي يسميه بعضهم بالحرف اللاديني ، وتبعه غيره من أولياء اليهود والنصارى وانساق خلفهم بعض أهل الجهل والغفلة والغباء فكتبوا لغاتهم بهذا الحرف الظالم أهله ، حصل ذلك للغة شعب الملايو في أندنوسيا والسواحلية وغيرها وحافظت لغات إسلامية أخرى على هذا الحرف العربي المبارك منها الفارسية والأوردية ولغة شعب الملايو في بروناي .
وحاول العدو إحلال لهجات الأقاليم محل لغة القرآن الجامعة وشايعه على ذلك عدد غير قليل من الزاهدين في لغة القرآن منهم سعيد عقل اللبناني ولويس عوض المصري وغيرهم ، وقد اقترح الفرنجة سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى إيجاد لغة عربية جديدة واجتمعت لذلك جماعة في برمانا في لبنان !! وكل ذلك يرمي إلى حرب الإسلام والوحدة الإسلامية وقد صرح بذلك القس زويمر فدعا سنة ست وتسعمائة و ألف بتاريخهم إلى القضاء على اللغة العربية تمهيدا للقضاء على الإسلام و وحدة المسلمين .
ولقد حدَّث أول قارئ للأخبار عندنا أن الفرنجة كانوا يشترطون أن لا تتضمن الأخبار أي كلمة فصحى وأنهم أخذوا عليه النطق بكلمات مثل أمير ووزير وسفير، واشتكوا منه إلى أولي الأمر وتعلل الرجل بأنه لا يعرف لهذه الكلمات مرادفا من لهجة أهل البلد وكانت شدةٌ لم يجد الرجل منها مخلصا إلا بعد فترة!!أرأيت كيف وصل الحقد على اللغة العربية بالفرنجة إلى أن يمنعوا مفرداتها ؟لذلك نقول إن التشبث بلغة الفرنجة ومحاربة اللغة العربية إنما هو تكميل للعمل الذي بدأه العدو ، وأن من شروط الاستقلال التخلص من لغة العدو وبيان ذلك من عدة وجوه :
الوجه الأول أن اللغة تحمل في مفرداتها وتراكيبها عقيدة الأمة وأخلاقها وتاريخها وانظر في ذلك اللغات المتداولة في البلاد الإسلامية سواء أكانت عربية أو غير عربية؟ فستجد فيها إيمانا وذكرا ودعاء وتضرعا وتعظيما لله ، وإذا نظرت إلي آداب هذه اللغات وأمثالها وجدتها مصبوغة بالصبغة الإسلامية ،بمقدار ما كانت الأمة مصبوغة بهذه الصبغة ، فإذا خرجتَ عن هذه اللغات إلى لغة العدو فكأنك خرجتَ من دار الإسلام إلى دار الكفر وقد أحسن الطوارقُ عندما سموا لغة الفرنجة باسم (تَكَافَرْتْ) على وزن تفاعل الدالة على المشاركة فهي تنقل إليك كفر القوم ووثنياتهم وتاريخهم وفجورهم وانظر في ذلك قولنا : انتقل إلى رحمة الله وقول الفرنجة انتقل إلى مثواه الأخير فتنقل هذه الكلمات عقيدتهم في إنكار البعث ، كما تنقل تلك الكلمات إيماننا بالله واليوم الآخر، ورجاءنا لرحمته وشفقتنا على المسلمين ، وقولنا السلام عليكم ورحمة الله، وقولهم صباحا جيدا، أو مساء جيدا ، وقولنا أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، وقولهم إلى اللقاء ، وقولنا جزاك الله خيرا ، وقولهم شكرا ، وقولنا أسأل الله لك النجاح، وقولهم أتمنى لك النجاح ، فيكاد يكون كل لفظ من ألفاظ لغة العدو وكل تركيب من تراكيبها صدا عن الدين ، وحربا عليه ، وانظر في ذلك تزيينهم ما يقبحه الشرع، وتقبيحهم ما يزينه الشرع ، فالإيمان بالغيب ظلامية، والكفر والإلحاد تنور، والاستقامة تزمت والفسق تحرر ، و هلم جرا .
الوجه الثاني : أن اللغة تربطك بكتب العدو وأمثاله وتاريخه وأخباره ، وهذه تتضمن مدحه والثناء عليه ، ونسبة كل الفضائل إليه ونسبة كل العيوب إلى خصومه ، فهو -أصلا -إنما جاء لتعمير البلاد ، وعلاج الأمراض ، ونشر العدل والأمن ، ولم يأت للسلب والنهب والطغيان كما يعرف العقلاء ، وهو في الترتيب – حسب مقاييسه هو ولغته هو – الأول وأنت الثالث ، وإذا أردت الخير فعليك أن تلحق به ، واللحاق به يبدأ باعتقاد عقيدته والاقتداء به في فجوره ، وشيئا فشيئا يزداد الإعجاب والارتباط ، فتسمع بأذن العدو وترى بعينه وتفكر بعقله، وتصبح جزءا منه لا يمكنك الاستقلال عنه .
الوجه الثالث : أن اللغة هي سمسار بضائع العدو ومسوق أمتعته ، واعتبر في ذلك بقصة الوكيل الذي ابتعثته إحدي الشركات الفرنجية ودفعت إليه مالا لصرفه في ترويج تجارتهم في بلاد الشام ، فذهب الرجل وفتح مدرسة لتعليم لغة الفرنجة وعاد ، فرفعوا أمره إلى أهل القضاء ، فاحتج الرجل بأنه إنما صرف المال فيما أمروه بصرفه فيه ، لأن تعليم لغة الفرنجة هو الذي يوجد مشترين دائمين ، وقد حكم القاضي بصواب تصرفه وتلاؤمه مع شروط العقد .
والخلاصة : أن لغة العدو هي جيشه المحتل ، وهي قيوده في الأيدي، وهي أوامره الموجهة باستمرار ، وهي شيطانه الذي لا يزال يغوي ويغري ، وهي ناقلة أمراضه ، ففيها كفره وفسقه ، وفيها جهله وغروره ، ثم هي أداته لزرع تعظيمه في النفوس والتخويف منه ، ومع ذلك فإن الأمر كما قال غوستاف لوبون – وهو أحد بحاثة الفرنجة ومؤرخيهم – ” إذا استعبدت أمة ففي يدها مفتاح حبسها ما احتفظت بلغتها . ”
وإذا تقرر ما سبق فاعلم أن من الواجب على أولياء الأمور أن يحرصوا على تعليم الأطفال كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحوادث سيرته ، وأخبار أصحابه ، وتاريخ هذه الأمة وأمجادها، وقادتها الأفذاذ ورجالها الأخيار ، وفتوحاتها في أقطار المعمورة ، وأن يحرصوا –كذلك- على تعليمهم اللغة العربية حتى يتقنوا علومها ، ويتذوقوا آدابها، فيتحصنوا بذلك ويصبحوا لبنات صالحة في بنيان المؤمنين ، قد ترسخ انتماؤهم وانتسابهم إلى الأمة ، وتغلغلت فيهم معاني الإيمان والجهاد ، والحب في الله والبغض في الله ، وعرفوا الفرق بين الإيمان والكفر ، وأخلاق المؤمنين وأخلاق الكافرين ،والفرق بين دار الإسلام ودار الحرب ، أما أن يلقن الطفل لغات أهل الكفر وعقائدهم وفجورهم وهو لا يزال غضا طريا ، صفحة بيضاء قابلة لأي نقش فهو العداء للأمة والحرب على الإسلام والتعاون مع الحربيين وهو مناقض كل المناقضة للإيمان والاستقلال .
والله وحده الرب ( علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) ( لا معقب لحكمه وهو السميع العليم ) و (حسبنا الله ونعم الوكيل ) .

11 January 2022